تقف هذه السلسلة من الحوارات كل أسبوع مع مبدع أو فنان أو فاعل في إحدى المجالات الحيوية في أسئلة سريعة ومقتضبة حول انشغالاته وجديد إنتاجه وبعض الجوانب المتعلقة بشخصيته وعوالمه الخاصة.
ضيفة حلقة الأسبوع الشاعرة والكاتبة أمينة الصنهاجي
كيف تعرفين نفسك للقراء في سطرين؟
لا يمكنني تعريف نفسي. أتغير بتغير الدقائق. وأكون حسب ما أجده من نفسي في كل لحظة. رغم أن لي سمات تدوم أكثر من غيرها وربما لا تفارقني مثلا كوني مغربية وليس بالانتساب فقط، لكن روحا وشغفا. وكوني أما، أعيش أمومة طاغية وعميقة فعلا. وكوني امرأة فإحساسي بالتميز شديد وحاضر بقوة، غير هذا متغيرات لا تثبت.
ماذا تقرأين الآن وماهو اجمل كتاب قرأته؟
لي عادة أكررها كل رمضان. وهي تمضية ما بعد الفجر مع كتاب “روح المعاني” للألوسي. وهو بين يدي هذه الأيام. بالموازاة كما هي عادتي.. أحاول الاطلاع على مقالات تخص كتاب بيريس غولت الأخير. لأنه صدر بالانجليزية وانجليزيتي ضعيفة. فصعب علي استيعاب الكتاب رغم حصولي عليه عبر أمازون، يتحدث عن جماليات السينما والأخلاق والفن عموما، وفلسفة غولت تستهويني مؤخرا في محاولة للخروج من حجرات الفلسفة التقليدية الرائجة.
أما أجمل كتاب قرأته فلا أعتقد أن هناك كتاب جميل، مفهوم الجمال هنا فضفاض. هناك كتب خطيرة ومؤثرة ومفارقة. وهناك كتب عبارة عن تجميع أو تكرار لغيرها. أفضل الأولى رغم صعوبة توفرها، لأنها عادة لا تختار للترجمة. ولأننا بالعالم العربي نتبع ونكرر ما راج واقعا من قبل. غالب المؤلفات تروج باعتبارها موضة سارية. فتجد الأفكار تتشابه وتتكرر كذلك النزاعات والايديولوجات التابعة.
هناك إشارة أود الوقوف عندها. أعتبر جازمة أن الكتب التي يصفها الناس ب “المقدسة” كتب فارقة وخطيرة وليس بالضرورة بمعنى سلبي. إذا تعاملنا معها بعقل منفتح ورغبة في المعرفة بلا خلفيات وأفكار مسبقة.. سنجدها فعلا غاية في التميز. وكلما فتحناها بأيد ملوثة بالحذر أو التنقيص أو السخرية أو انتظار السيء، تبتعد بروحها عن فهمنا وتغدو فارغة من المعنى. أعتقد أن الكتب لها روح خاصة وتعطيك بقدر ما تريده منها.
متى بدأت الكتابة ولماذا تكتبين؟
لا أتذكر متى بدأت الكتابة، لكني أتذكر جيدا أول مرة فزت بجائزة عن “قصيدة” في إطار مسابقة مدرسية. وعمري حينها بين 12 و13 سنة.(مرحلة الاعدادي).
لكني لم ألتزم أبدا بصنف معين. كما لم ٱخذ مسألة الكتابة بالجدية اللازمة. وأعتقد أنه لولا المنتديات من قبل والفيسبوك حاليا ما وجدتني بين كوكبة ”الكتاب” كما أعتز بذلك الآن.
ماهي المدينة التي تسكنك ويجتاحك الحنين إلى التسكع في أزقتها وبين دروبها؟
تسكنني مراكش وقررت أن أسكنها. ولدت ونشأت وأقيم في الدار البيضاء. وأحبها. وأجد ما يكتبه الأغلبية عنها فيه ظلم ومغالاة. فهي مدينة حقا بمفهوم المدينة الحضاري. لكني أجدني بمراكش جدا. وأحس بالانتماء لها بشكل غريب وحميمي. وأحب التسكع بين دروبها القديمة بلا كلل. وأقوم بذلك كثيرا مؤخرا.
هل أنت راضية على إنتاجاتك وماهي أعمالك المقبلة؟
مسألة الرضا نسبية، هناك نصوص أجدني فيها حتى وإن مرت سنوات على كتابتها. وهناك نصوص حين أعيد قراءتها أقول في نفسي: ياللبؤس! ماهذا؟. ليس لدي أعمال سابقة وأخرى لاحقة. أفتح تيمات وأتركها معلقة وأنتقل لتيمة أخرى وهكذا… مرات أجمع النصوص المبعثرة فأفكر في النشر.. فأجد أن الفكرة لا تستحق العناء مع ما يعيشه واقع الكتاب بعالمنا العربي. ومرات أقول: ما الذي أضيفه حين أطبع ثرثراتي وخواطري وحتى أفكاري؟ لذلك رغم توفري على كم كبير من الكتابات والنصوص. لا ٱخذ مسألة النشر على محمل الأهمية. لكني نشرت سنة 2009 كتاب ترجمة لحوارات جون ماري لوكليزيو حول الكتابة ودورها والكثير مما يتعلق بها في كتاب ”غابة التناقضات” عن مؤسسة أروقة للترجمة والدراسات بالقاهرة. وأتبعته بمجموعة نصوص عنوانها ب”يطلي حروفه بالضجر” عن نفس الدار سنة 2010. لي أيضا ضمن منشورات مجلة “نصوص من خارج اللغة” ومؤسسة أطياف كتاب “البطروس الغريب” عبارة عن حوارات مفترضة مع شارل بودلير. كان ذلك سنة 2020 في القادم هناك إصدارات جديدة أتمنى خروجها سالمة هههه قريبا جدا.
متى ستحرقين أوراقك الابداعية وتعتزلين الكتابة بشكل نهائي؟
لم أحدد أبدا وقتا وقررت أن أجعله بداية للكتابة، كما لن أستطيع تحديد وقت للتوقف عن ذلك. هل نملك فعلا القرار؟ لا أظن.
ماهو العمل الذي تتمنين أن تكوني كاتبته وهل لك طقوس خاصة للكتابة؟
أنبهر بأعمال كثيرة، وأجد كتب الأساطير والملاحم والفانتازيا مذهلة بشكل خاص. لكني لم أتمنى أن أكون صاحبة عمل ما.. صدقا المؤلف لا يهم من يكون. المهم والأهم هو النتاج / العمل في ذاته. ليس لي طقوس سوى أني أعيش حالة تلبس كامل حين الكتابة. أستغرق في اللحظة وأغيب عما حولي، وحين يقاطعني شيء ما أو تواصل ما يتبخر كل شيء كأنه ينتمي لعالم مواز لا يقبل التماهي مع الواقع. يمكنني الكتابة في السيارة أو أثناء كي و طي الملابس. أو أثناء الطبخ. أو جالسة بمقهى،.. لافرق. مرات أحس فعلا أنني مجرد وسيلة وصل. والكتابة فعل فوقي منفصل ومتعال.
هل المبدع والمثقف دور فعلي ومؤثر في المنظومة الاجتماعية التي يعيش فيها ويتفاعل معها أم هو مجرد مغرد خارج السرب؟
من الواجب على المبدع أن يضطلع بدور فعلي ومؤثر، لكن ماذا عن السرب الذي ينتمي إليه؟ هل يهتم لتغريده؟! المثقف/ الكاتب/ المبدع. بينها انفصال وتقاطع. لذلك بغض النظر عن مفهوم المثقف، أجد أن تقييده بمهام محددة نوع من الارهاب النفسي يجعله يلبس زيا لا يناسبه، المثقف شخص يعيش في هذا العالم ويتفاعل معه بقدر ما يتاح له من وسائل. مسألة الموقف والالتزام تتغير من شخص إلى شخص نظرا لمحددات كثيرة، تمثل الثقافة والمعرفة والابداع جزء منها فقط. الأدب عموما أعتبره شاهدا، شاهدا غير محايد بالضرورة، ولكن ليس من شأنه التغيير. الأديب مشاغب مشاكس مزعج. دوره أن يجعل الضجيج يعلو. أن يزرع القلق.. وليس ملزما بأن يكون الفدائي أو المغير أو التابع لتيار ما.
ثم أي سرب سيغرد خارجه؟ المجتمع خليط أسراب متجادبة، أينما غرد المبدع سيكون خارج سرب ما بالضرورة.
ماذا يعني لك العيش في عزلة اجبارية وربما حرية أقل؟وهل العزلة قيد أم حرية بالنسبة للكاتب؟
صورة الكاتب المنطوي المنعزل الذي يحب الكتب ولا يختلط الناس، صورة نمطية، الكثيرون يحاولون عيشها لأنها مشبعة برومانسية ساحرة. لكنها ليست بالضرورة صحيحة. العزلة بالنسبة لي حلم. حلم أريد تجربته ولم أستطع لحد الٱن.
العزلة بالنسبة لي مرحلة يتخفف فيها الشخص من التزامات الحياة العادية. كأن يستيقظ في الصباح وينام بالليل. أو كأن ينتبه لمواعيد الأكل، أو مجاملات الحياة الاجتماعية أو غير ذلك مما نسميه حياة. العزلة هي أن تعتزل العادي والمحدد لتترك كل شيء يسير طواعية بلا قيد من أي نوع. وهذا لا يتأتى إلا في صيغة الوحدانية التامة. هل نستطيع ذلك؟ لا يمكن الجزم إلا بالتجربة. ولم أ جرب بعد.
شخصية من الماضي ترغبين لقاءها ولماذا؟
صدقني حاولت استحضار الكثير من الأسماء.. لكني أحس بالرعب كلما توقفت عند اسم ما. ملاقاة من نحب مخاطرة كبرى. الحنين و الشوق يضفي قداسة على الشخص الذي نحبه، وكسر هالة القداسة باللقاء أمر مرعب حقيقة. لا أريد لقاء أي كان هنا.. في هذا العالم.
ماذا كنت ستغيرين في حياتك لو أتيحت لك فرصة البدء من جديد؟
البدء من جديد أمر ممتع. ربما أجرب أن أكون شريرة.. أو كسولة. لا أدري صراحة.
إلى ماذا تحتاج المرأة في أوطاننا لتصل إلى مرحلة المساواة مع الرجل في مجتمعنا الذكوري بامتياز. إلى دهاء وحكمة بلقيس أم إلى جرأة وشجاعة نوال السعداوي؟
رغم ميلي الشديد لقضايا المرأة ونضالها. إلا أن النسوية بالنسبة لي مثل طفلة عنيدة تحب الصراخ. المرأة كانت ومازالت سيدة الحياة ومسيرتها والمؤثرة الأولى عليها. هي فقط تترك للرجل مساحة ينفش فيها ريشه.لكنها من تحدد المساحة ولون الريش.
يتجبر الرجل ويصبح خطرا عليها إذا أعطته إشارة أنها الأضعف. وهي ليست كذلك.
ليس هناك مجتمع ذكوري. هناك قيم وثقافة يتواضع الرجال والنساء عليها ويحمونها وغالبا تكون المرأة هي الحامية الأكثر شراسة للمجتمع وقيمه.
بلقيس مربكة لي دوما / لا أجدها حكيمة. ربما ضجرة. أو هاربة من وضع ثقيل عليها فأوهمت الجميع حتى سليمان أنها خضعت.
نوال السعداوي صوت يحاكي ويكرر مقولات نسوانيات يتبرعمن عبر محطات مكانية وزمانية عديدة. والإعلام يشتغل على ذلك حسب المطلوب.
المرأة كون. لا يهمها الثنائيات السطحية.
صياغة الأدب لا يأتي من فراغ، بل لا بد من وجود محركات مكانية وزمانية. حدثينا عن ديوانك (يطلي حروفه بالضجر). كيف كتب وفي أي ظرف؟
“يطلي حروفه بالضجر” مجموعة نصوص كتبت على فترات مختلفة. أغلبها كانت ضمن ”النص المنفلت” والذي كنا نرتجله عبر منتدى جنون.. ونحن أصدقاء نؤمن بالكتابة الجديدة المتجاوزة للتصنيف.
كان الكتاب ضمن مجموعة منشورات افتتحت بها مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر مشروعها الرائد لنشر وتثمين الكتابات التي تنحو شكل النص الجديد المتجاوز للكتابة التقليدية. بعد المؤتمر الأول ل”النص الجديد/ مابعد قصيدة النثر” الذي أقيمت نسخته الأولى بالقاهرة سنة 2009.
ماذا يبقى حين نفقد الأشياء؟ الذكريات أم الفراغ؟
الأشياء ننفصل عنها ولا تتبخر أو يصيبها العدم.
لا شيء يختفي. كما ليس هناك فراغ بالمعنى الفيزيائي.
هناك تداول مختلف للأشياء من حولنا ومعنا.
الذكريات خائنة، تضع نفسها داخلنا بشكل لا يوافق الحقيقة دائما، ثم هي انتقائية جدا. ولا أعرف بالضبط كيف تختار وقتها ولا مسار تكرارها بالنفس.
لذلك فما يبقى ذكريات، لكنها مخاتلة وغير حقيقية كما نعتقد. ثم النسيان نعمة وهمية، أنا لا أنسى. لكني أتذكر بشكل مشوه..
كيف تتعايش الشاعرة مع المترجمة تحت سقف واحد في حياة المبدعة أمينة الصنهاجي؟
الترجمة نشاط بدأته هواية ممتعة، وانتهى معي لرهبة حقيقية وعتبة أخاف جدا الوقوف عندها. حين اختبرت خوض غمارها.
شاعرة ومترجمة سمات أحاول بها وضع صورة غير مربكة عني للغير. الانسان عادة خليط من أمور شتى تتدافع داخله وحوله ويعيش في تفاعل مستمر معها. الترجمة تؤثر على الشعر لا محالة. وما أقرأه أو أترجمه يتسلل بالضرورة وبوعي مني أو غفلة إلى ما أكتبه.
هل يعيش الوطن داخل المبدع المغترب أم يعيش هو بأحلامه داخل وطنه؟
.الاغتراب حالة وجدانية غير مرتبطة بمكان أو وطن. أما الغربة فحقيقة لم أختبرها، أسافر كثيرا، يتعمق لدي انتمائي جدا حين أبتعد عن المغرب. وأحس أني أحتاج لأخبر الجميع أنني من المغرب. لكني أعود. فيبقى تواجدي ببلدي هو القاعدة والسفر استثناء لا يجعل مني مغتربة. أما الاغتراب فأظن أنه محرك أساسي للكتابة، إنه ما يجعلنا نريد بقوة أن نشرح للٱخر من نكون. أو أن نفكك شيفرة لغتنا الداخلية لنا أولا و لغيرنا تاليا عن طريق الكتابة.
أجمل وأسوأ ذكرى في حياتك؟
أجمل ذكرى / حدث. هناك الكثير الجميل فعلا والمبهج جدا: ما يحضرني الآن: خبر أني حامل أخيرا بعد انتظار عشر سنوات. وضع قدمي بالروضة الشريفة أول مرة. أول سفر لي بالطائرة ههههههههههه.
أما أسوأ ذكرى / خبر: مرضي السابق، ووفاة سندي وصديقي أخي مصطفى.
كلمة أخيرة أو شئ ترغبين الحديث عنه؟
الحوارات مساحة للبوح؛ للثرثرة الحميمة الصافية، خصوصا حين تكون بهذه الصيغة الخفيفة والدقيقة في نفس الوقت. أحسست أنني على طاولة مقهى صغير بزاوية زقاق قديم وقد فتح لي الصديق رضوان بنشيكر المجال للحديث بلا رتوش، وأنا ثرثارة جدا.
شكرا كثيرا وامتنان كبير.