تقف هذه السلسلة من الحوارات كل أسبوع مع مبدع أو فنان أو فاعل في أحد المجالات الحيوية في أسئلة سريعة ومقتضبة حول انشغالاته وجديد إنتاجه وبعض الجوانب المتعلقة بشخصيته وعوالمه الخاصة.
ضيفة حلقة الأسبوع الشاعرة الفلسطينية ريتا عودة
كيف تُعرّفين نفسك للقُرَّاء في سطرين؟
أنا ريتا الرّائية
أتيتكم للعشقِ
نبيّة.
أهزُّ
بشجرِ الشِّعرِ
فيُساقِطُ عليكُم
رُطَبًا جَنِيًّا.
كُلُّ
أوجاعِ الكَادِحينَ
قَضِيَتِي،
فاقْرَأوا،
إذ تقرأونِي،
أدبًا شَهِيًّا.
وانْصِتُوا،
فتسموَ أرْواحُكُم،
إذ تسمعونَ
صَوْتِيَ الشَّجِيَّ.
ماذا تقرأينَ الآن؟ وما هو أجمل كتاب قرأته؟
حاليًا أقرأ: “فتاة من ورق” ل غيوم ميسو، وأعتبر هذه الرواية من أجمل الكتب التي قرأتها ففكرتها غير مألوفة وأسلوب الروائي مُشَوِّق.
متى بدأتِ الكتابة ولماذا تكتبين؟
يبدو لي أنّني ولغتي ولدنا من ذات الرّحم فأدركتُ أنّني يجب أن أتفرَّد بنسيج شعريّ يخصُّني أنا وحدي:
لا أكتبُ ما تكتبونَ،
فقصيدتي طفرةٌ قُزحيَّةٌ
أضاءَتِ الكَوْنَ…
أفلا تُدْركُونَ..؟
أكتبُ لأُحَرِّكَ المَشاعرَ الرّاكدة والرؤى.
أكتبُ لا لأصِلَ بَلْ لأُوْصِلَ.
ما هي المدينة التي تسكنك ويجتاحك الحنين إلى التّسكُّع في أزقَتها وبين دروبها؟
حيفا، عروس البحر، هي عشقِي.
لذلك، انتقلتُ من الناصرة للسكن في حيفا واقتنيتُ منزلا يُحاصرُ البحرَ الذي أعشق من خلالِ جميع نوافذهِ.
هل أنت راضية عن إنتاجاتك وما هي أعمالك المقبلة؟
إنْ لَم أَكُن أنا رَاضية عن إنتاجاتي فكيف سيرضى المتلقي عنها؟ لستُ، فقط، راضية عمَّا أكتب إنَّما أنا مُعجبة بكتاباتي، فأمْرُ الكتابة غريب: كلَّما حاولتُها، كلَّما باغتتني باحتمالاتها.
وأنا أجتهدُ كالنّملة لأصنعَ أدبًا يستدرجُ النَّوارس لشواطِئِهِ.
أنا في بحثٍ دائِمٍ عن بُقْعَةِ كتابَة لَم يطأها حبرٌ من قَبْل لكي أسارع باحتلالها. ولا أتوقّف عند محطّة نجاح واحدة وإلا سَأهوي، إنّما أمضي في كلّ إتجاهٍ بحثًا عن المزيد من اللآلِىء وأنا الصَّيَّادة الماهرة للصورة الشّعريّة العذبة، وأنا الشّاعرة التي فجّرت المفردة لتُخرج منها طاقاتها الكمينة وتُلبسُها هالات تليق بها.
أمَّا بخصوص أعمالي المُقبلة فأحتاج لطباعة ثلاث روايات تنتظر أن ترى النُّور. كما أقوم حاليا بإعداد ديوان جديد قد يكون موسوما ب: (ريتاي) أو (لا أكتبُ ما تكتبون).
متى ستحرقين أوراقك الإبداعيّة وتعتزلينَ الكتابة؟
“وكُلَّمَا حَاوَلْتُ أَنْ أُجْهِضَهَا، لُغَتِي، تَأْبَى أَن تُغَادِرَ رَحَمِي فَتَشْهَقَ مِنْ جَديدْ…!”
كثيرًا ما رميتُ يمينَ الطَّلاقِ على الكتابة وظننتُهُ فِراقـًا أبديًّا لكنَّها كانت تعودُ وتُغويني بإغراأتٍ أشهى.
مثلاً، قبل سنوات توقّفتُ عن الكتابة عدّة شهور وظننتُ أنّني استرحتُ من (خليّة النّحل) التي استعمرت رأسي، فإذا بها تأتيني بإغواء عظيم:
كتابة روايتي الأولى: “إلى أن يُزْهِر الصَّبَار”.
ما هو العمل الذي تمنيتِ أن تكوني كاتبته؟ وهل لكِ طقوس خاصّة للكتابة؟
لا طقوس لي فيما يخصّ الكتابة.
الكتابة تفرض نفسها علينا بساديّة متى شاءت هي لا متى شئنا نحن.
منذ نعومة حبري حين قرأت رسائل غسان كنفاني لغادة تمنيت لو أكتب رسائل كهذه مع رجل حلم حقيقي.
هل للمُبدع والمُثقَّف دور فعلي ومُؤثِّر في المنظومة الإجتماعيَّة التي يعيشُ فيها ويتفاعل معها أم هو مُجرّد مُغرِّد خارج السِّرب؟
ثمّة من يكتبون للتخلّص من شحنات عاطفيّة تُؤرقهم. هؤلاء، تظلّ كتاباتهم ضمن الإطار الشخصي لذلك ليس لهؤلاء تأثير فعليّ على المنظومة الإجتماعيّة.
أمَّا الشُّعراء الأنبياء فهؤلاء همّ الذين يحملون شعلة الوعي وينتقلون من بيت لآخر، فِكْرٍ لآخر، ليبِثُّوا الفرح حتَّى في أحلك الأوقات ويستنهضُوا الأمَّة:
أحملُ
شُعلَةَ الشِّعْرِ
وَأَمْضِي..
أطْرُقُ الأبوابَ
بيتًا فبيتًا.
أُسَابِقُ الرِّيحَ
لعَلِّي
فِي مصابيحَ
القلوبِ
أُشْعِلُ الأمَلَ
زَيْتًا فَ زَيْتًا.
وهم قلائل:
وَحْدَهُم الشُّعراءُ
الأنبياءُ
يُقَدِّمونَ للسماءِ
قرابينًا
مَعْجُونَةً
مِنْ دُمُوعِ اليَتَامَى
ودَمِ الشُّهَداءِ.
الشعراء الأنبياء هم الملتزمون بقضايا الأمَّة لذلك يمضُون لفضح العتمة ودحرِ خفافيش الظّلام وبثّ جرعات الأمل:
وَنُغَنِّي لننتَصِر
أمامَ يَأسِنا لا نَنْكَسِرْ.
ماذا يعني لكِ العيش في عزلة إجباريّة وربما حريّة أقلّ؟ وهل العُزلة قيد أم حريّة بالنسبة للكاتب؟
أكونُ لكَ
سنونوة
حينَ لا تكونُ
ليَ
القفص.
الشَّاعر بطبعِه روح تعشق الإنطلاق كما تهوى.
بالنسبة لي، لا أطيق القيود ولا العزلة الإجباريّة ودوما أشفقُ على أبناء وطني من سجون الاحتلال. لا أستطيع أن أفهم كيف يقضون الوقت هناك!
أمَّا العزلة الإختياريّة مُحبَّبَة. أحيانًا ننزوي داخل عزلتنا لنجدّد طاقتنا الإبداعيّة ونقوم كالعنقاء من رمادنا ونعود بزخم أكبر.
شخصية من الماضي ترغبين لقاءها ولماذا؟
أتمنى لو ألتقي شخصيًّا بشاعر فلسطين، محمود درويش، لعلّي أستعطفه أن يمنحني من موهبتِهِ العظيمة الضِعْفَ.
ماذا كنتِ ستغيّرين في حياتك لو أتيحت لكِ فرصة البدء من جديد ولماذا؟
لو أتيحت لي فرصة البدء من جديد لاخترتُ حياة أقلّ وجعا فقد كان الصليب الذي حملته وسرتُ في درب الآلامِ كما السيّد المسيح ثقيلا شائكا مُوجعا.
ماذا يبقى حينَ نفقد الأشياء؟ الذّكريات أم الفراغ؟
أصعب فقد هو الفقد العاطفيّ وأنا اعتدتُ قيادة قارب مشاعري بحيث لا أترك لها مجال السيطرة عليّ.
لذلك، أعتبر أنّه لا يبقى من الفقد إلاّ الذكريات وأنا اعتدتُ تحرير نفسي من الذكريات الأليمة والإحتفاظ فقط بالجميلة منها.
صياغة الآداب لا تأتي من فراغ، بل، لا بُدَّ من وجود محرّكات مكانيّة وزمانيّة. حدّثينا عن ديوانك الأوّل: ” ثورة على الصمت” كيف كُتبَ وفي أيّ ظرف؟
أنا الشّاعرة التي ولدتُ مُحمَّلة بهموم الأنثى، أتى ديواني الأوّل ثورة نسويّة على الصّمتِ بامتياز.
هي ثورة على أشباه الرجال الذين يتعاملون مع الأنثى كآلة يستعملونها حسب توقيت رغباتهم.
هي صرخة من أجل الأنثى التي تُقتلُ بحجّة شرف العائلة، وكم من جريمة كهذه ما زالت تُمارسُ في مجتمعنا ويُغطّي عليها قانون الدّولة.
كنتُ أُدرّس لغة انجليزيّة في المدرسة الثانوية في الناصرة عندما صدرت ثورتي.
أذكُر أنّ العديد من فتيات المدرسة أخبرنني بكبرياء أنّني عبّرتُ عن ثوراتهن المكبوتة/المكتومة.
إلى ماذا تحتاج المرأة في أوطاننا لتصل إلى مرحلة المساواة مع الرجل في مجتمعاتنا الذّكوريّة بامتياز؟ إلى دهاء وحكمة بلقيس أم جرأة وشجاعة نوال السعداوي؟
ثقة المرأة بنفسها، ايمانها بطاقاتها وقدراتها، هو مفتاح نجاحها في أيّ مضمار كان.
من هنا تنطلق بذكاء وحكمة لمواجهة المجتمع الذّكوري وانتزاع حقّها في الحياة بكرامة.
ما جدوى هذه الكتابات الإبداعيّة وما علاقتها بالواقع الذي نعيشه؟ وهل يحتاج الإنسان إلى الكتابات الإبداعيّة ليسكن الأرض؟
لقد أجبتُكَ أعلاه عن الجزء الأوّل من السؤال.
أمّأ بخصوص جدوى الكتابة الإبداعيّة فدعني أسألك: هل تخيلت الحياة يوما بدون بحار أو طيور أو ورود أو ألوان أو موسيقى؟
الكتابة، أيا عزيزي تُجَمِّلُ وجه الحيَاة.
كيف ترينَ تجربة النّشر في مواقع التواصل الاجتماعي؟
نشر المادة الأدبيّة عبر مواقع التواصل الاجتماعي أتاح للأدباء فرصة التحرّر من مزاجيّة محرّري الصحف وصفقاتهم التي يتم تداولها من تحت الموائد.
كما أتاحت لنا فرصة التعرّف على زملائنا على امتداد الوطن العربي. خاصّة نحن الفلسطينيون المحاصرون بالأسلاك الشّائكة والحدود.
لكن، ليس كلّ ما يتم نشره يحمل بذرة بقائه فيه.
البقاء، طبعا للأنقى.
أجمل وأسوأ ذكرى في حياتك؟
أجمل ذكرى كانت ولادة أوّل حفيدة لي: جنى، التي منحتني لقب جدّة.
وأسوأ ذكرى كانت وفاة أمي وأبي في ذات الأسبوع.
كلمة أخيرة، أو أيّ شيء تودين الحديث عنه.
لقد تابعت حواراتك الصحفيّة هذه من قبل أن تصطادني، أنا أيضا.
أعجبتُ بها لكونها تحفّز على الغرف من بئر الذّاكرة وكنت قد قررت أن أجيب عليها دون أن تطلب أنت منّي ذلك.
لكن، لحسن حظّي أنّك اخترتني. هكذا، عبرَ مفرداتي، دخلتَ مرآتي فعرفتني بعُمق.
شكرا لكونك جعلتني أغوص داخل ذاتي لالتقاط اللآلئ.