تقف هذه السلسلة من الحوارات كل أسبوع مع مبدع أو فنان أو فاعل في إحدى المجالات الحيوية في أسئلة سريعة ومقتضبة حول انشغالاته وجديد إنتاجه وبعض الجوانب المتعلقة بشخصيته وعوالمه الخاصة.
ضيفة حلقة الأسبوع الكاتبة المصرية غادة العبسي
كيف تعرفين نفسك للقراء في سطرين؟
عاشقة للفنون بشكل عام، الموسيقى والأدب بشكل خاص، فطرةً أجدني متطلعة إلى ملاقاة الجمال، في أبسط وأدق الأشياء، أمارس الطب وأهوى الكتابة، ابنة وزوجة وأخت وصديقة.
ماذا تقرأين الآن؟
أقرأ حاليا رواية الشرطي الثالث للكاتب الأيرلندي فلانّ أوبراين، ترجمة إيناس التركي، وهي رواية استثنائية من عدة جوانب، فمن الصعب أن تجد سمات اللامعقولية والواقعية السحرية والكوميديا السوداء والفكر الفلسفي العميق، مجتمعة كلها في عمل إبداعي واحد، مضاف إليه نظريات وقوانين ميتافيزيقية صنعها الكاتب نفسه ونسجها من خياله المحض ونسبها إلى شخصية “دو سيلبي” العالم والفيلسوف غير الموجود حقيقة. والعجيب أنها كتبت بين عاميّ 1939 و1940، بأسلوب حداثي ومبتكَر ومختلف كثيرًا عما كتبه غيره من روائيّ عصره. أبهرتُ كثيرًا بأسلوب المترجمة إيناس التركي السلس، وبمقدرتها على إيصال أفكار ومشاعر هذه الرواية المتشابكة والتي شجعتني على قراءة المزيد من أعمال فلان أوبراين.
متى بدأت الكتابة؟ ولماذا تكتبين؟
لا أعرف متى بدأت الكتابة، فقبل بضع سنوات كنتُ أظن أنني بدأت بحصة التعبير في أثناء دراستي الإبتدائية، ولكن ما تراكم لديّ في الفترة الأخيرة من أفكار وذكريات واستنتاجات ومعرفة جعلني أحسب أنه من الجائز أن أكون قد بدأت الكتابة قبل ذلك بكثير، ربما في رحم أمي منذ تكونت بصمات أصابعي، ربما بلغة أخرى غير التي أعرفها، أكثر بلاغة ورهافة مما تعلمته فيما بعد..
ما هي المدينة التي تسكنك ويجتاحك الحنين إلى التسكع في أزقتها وبين دروبها؟
ضيعة “حصرون” بلبنان أو “وردة الجبل” كما يسمونها، كنتُ محظوظة بزيارتها عام 2000، وبرغم مكوثي أسبوعًا واحدًا إلا أنها تركت بداخلي أثرًا عميقًا، كثيرا ما يجتاحني مشهد الجبل المنير في الليل من نافذة غرفتي بالدير حيث أقمنا، أشجار الكرز وثمارها التي كانت تنتظرنا في المساء بعد عودتنا من جولاتنا اليومية في ربوع لبنان، المياه المنسابة في أكفّنا ومن صنابير خزفية زينت أزقة حصرون، غناء الأصدقاء في الباص ذهابًا وإيابًا كل أتى من بقعة عربية ما، الوجوه السمحة التي استقبلتنا بحفاوة ومحبة وودعتنا بالدموع والتأثر.
هل أنت راضية على إنتاجاتك وما هي أعمالك المقبلة؟
الشعور بالرضاء أثناء إنجاز أي عمل خطير، وما يجعلني أستمر في التدقيق وإعادة الصياغة مرات ومرات هو العكس تمامًا، أتوقف فقط عندما أعاود قراءة ما كتبت وأستمتع به.. ولا شك أن التغيير اللحظي الذي يحدث بداخلنا يجعلنا غير راضيين في كثير من الأحيان عما كتبنا.
من المنتظر أن تصدر لي روايتان جديدتان هما “سدرة” عن دار روافد و”كوتسيكا” عن مركز المحروسة للنشر، وذلك بالتزامن مع معرض القاهرة الدولي للكتاب.
متى ستحرقين أوراقك الإبداعية وتعتزلين الكتابة؟
لو أني بقيتُ على قيد الحياة على الصورة الذهنية السليمة التي فطرني الله عليها فلن أقدم أبدًا على عملٍ كهذا، أما إذا اعترتني لحظة جنون أو يأس لا محدود ربما فعلتُ ذلك يومًا ما ..ومَن يدري!
هل المبدع والمثقف دور فعلي ومؤثر في المنظومة الاجتماعية التي يعيش فيها ويتفاعل معها أم هو مجرد مغرد خارج السرب؟
وقتما شاركت إبداعك مع شخص واحد على الأقل فلم تعد مغردًا خارج السرب، ولا يهم عدد من يصلهم هذا الإبداع بقدرما يهم أن يكونوا قد تأثروا به وانفعلوا له.
ماذا يعني لك العيش في عزلة إجبارية وربما حرية أقل؟ وهل العزلة قيد أم حرية بالنسبة للكاتب؟
تحدثتُ من قبل أن دراستي للطب كانت سببا مباشرًا في حالة العزلة التي بدأتُ آلفها منذ معرفتي بالكتابة، والعزلة المقصودة هُنا هي الانشغال المزمن بالكتابة وما حولها، وتحري حالة الصفاء الذهني والروحي لكي تنسكب القصص التي امتلأ بها القلب في انسيابية ودون عصاب.
الكتابة والقيود لا يتفقان، الكتابة مثلها كسائر الفنون فعل حر من الألف إلى الياء والعزلة ليست قيدا بل هي ثمن لا بد من دفعه حتى يكتمل العمل الفني.
شخصية في الماضي ترغبين لقاءها ولماذا؟
ليوناردو دافنشي بكل تأكيد، لأنني من فرط إعجابي بفنونه أصبحت في حاجة ماسّة للتأكد إذا ما كان شخصًا حقيقيًّا أم أسطورة اختلقها مريدوه ومحبوه وتلامذته، حتى فيما يتعلق بمنجزه الأدبي أجد أنه مدهش وشديد الرهافة.
ماذا كنت ستغيرين في حياتك لو أتيحت لك فرصة البدء من جديد ولماذا؟
لو لديّ فرصة للاختيار سأعتزل عالم البشر كليةً، سأكون كائنًا بحريا رخوًا يحتمي بصدفة صلبة، أو شجرة مبهجة مثمرة وارفة الظلال تنام وتموتُ واقفة.
ماذا يبقى حين نفقد الأشياء؟ الذكريات أم الفراغ؟
عندما تقتطف زهرة من غصنها لن يعود الغصن كما كان، مهما بدا للرائي ساكنًا فارغًا، لا شئ يبقى بعد فقدان الأشياء، لأننا نتغير، لن نصبح ذات الأشخاص، حركة الكون مستمرة حولنا وفينا، سنغادر لحظة الفقدان إلى لحظة أخرى ربما أكثر رحمة أو قسوة، والذكريات ليست سوى أثر خطوات الذين تجاوزونا إلى غيرنا وكذلك نفعل بالآخرين.
صياغة الآداب لا يأتي من فراغ بل لابد من وجود محركات مكانية وزمانية، حدثينا عن آخر رواياتك “كوتسيكا”، كيف كتبت وفي أي ظرف؟
كُتبت هذه الرواية في حوالي 4 أعوام بين مصر والولايات المتحدة، وتتتبّع سيرة مصنع كوتسيكا لصناعة الكحول والبيرة بمنطقة طرة في مصر قبل أكثر من مئة عام، من خلال حكاية عائلة كوزيكا اليونانية التي استقرت بمصر في ظل ظروف إجتماعية وثقافية وسياسية ودينية فارقة في تاريخ مصر واليونان، يكتشف القارئ مع رحلة الرواية التي تقع في أكثر من 370 صفحة، كيف هاجر تيوخاري كوزيكا من اليونان إلى الإسكندرية، وأصبح شاهدًا على مذبحة الإسكندرية الشهيرة وما وقع بعدها من احتلال بريطانيا لمصر، كيف أسس أول فابريكة للكحول في الشرق الأوسط بمساعدة أخيه “بوليخروني”، وألحق بها مصنعًا آخر لصناعة البيرة، تسرد الرواية حقائق عن حياة اليونانيين في مصر خلال تلك الفترة وحتى قيام ثورة 23 يوليو، إسهامات الصنّاع الأجانب في نهضة مصر الصناعية التي حاربتها انجلترا بقوة، عالم المال والرشاوى والصفقات، وحصول تيوخاري على لقب ملك السبرتو،استكمال أحد أفراد العائلة لمسيرة الأب والعم، وقصة حبه الشهيرة مع نجمة السينما الصامتة الأمريكية بيرل وايت، المنافس الفعلي والوحيد لشارلي شابلن على إيرادات السينما الأمريكية، القصة التي شغلت الصحافة العالمية آنذاك إثر علاقتهما لمدة تقترب من اثني عشر عامًا.
الخط الثاني والموازي في رواية كوتسيكا يتناول قصص العاملين في الفابريكة من المصريين وكيفية اندماجهم وَأسرهم في عالم صناعة البيرة، ومدى قبول المسلمين منهم العمل في صناعة محرمة من وجهة نظر مجتمعية، برغم تاريخ المطبخ الفرعوني الذي كانت فيه الجعة أختًا للخبز، سرد حي لعلاقات المصريين على اختلاف دياناتهم في تلك الفترة، كل ذلك مضفر بقصص الحب التي تستولي على جزء كبير من الرواية.
أم كلثوم هنا بطل أساسي، من خلال علاقة أحد عمال الفابريكة بها، تتشكل تلك العلاقة في إطار تصاعدي حتى الوصول إلى أقصاه عند نهاية الرواية.
تزخر “كوتسيكا” بتساؤلات دينية وعرقية، يطرحها ويناقشها الأبطال أنفسهم، تأملات حول المسيح ومدى التقارب الذي جمع بين يوناني ومسيحي مصر كأرثوذوكسيين، يهود مصر وكيف تعامل المجتمع المصري معهم. أحكي من وقائع ما حدث في تلك الفترة، سواء اضطهاد أو دعاوى تكفير أو قبول ومؤازرة تصل إلى حد بناء “كوتسيكا” لمسجد يصلي به المسلمون العاملون في مصنع الكحول والبيرة.
تتكئ الرواية على جراحات الثورات المصرية، ومدى نجاحها أو سقوطها، الحربين العالميتين، وكيفية انتقال الهيمنة العالمية من بريطانيا إلى الولايات المتحدة.
الى ماذا تحتاج المرأة في أوطاننا لتصل الى مرحلة المساواة مع الرجل في مجتمعاتنا الذكورية بامتياز.الى دهاء وحكمة بلقيس ام الى جرأة وشجاعة نوال السعداوي؟
بالطبع تحتاج المرأة إلى الحكمة في إدارة مواهبها وقدراتها الذاتية وعلاقاتها الأسرية والعاطفية، تحتاج كذلك إلى شجاعة وحسم فيما يتعلق بخصوصيتها واستقلالها المادي وحقوقها المدنية، ولكن في الوقت نفسه لن تستطيع المرأة أن تنال حقوقها كاملة بدون مؤازرة مجتمعية وإيمان بدورها ومهامها، لن يحدث ذلك بدون سن قوانين تعاقب على ازدراء الأنوثة والتعامل مع المرأة ككائن أدنى، نحن في حاجة إلى إعادة تقييم لما نربي عليه أطفالنا وما تربينا عليه نحن من تمييز أو تفرقة، وإعادة فهم الأديان السماوية بإعمال العقل فيما هو مستحدث من ظروف الحياة والنشأة.
كيف ترين تجربة النشر في مواقع التواصل الاجتماعي؟
كلما شعرنا بأن انقضاء عصر الكتاب الورقي أصبح وشيكًا، فوجئنا بصموده أمام القوة الهائلة لوسائل التواصل الاجتماعي، نعم، استبدلت الجريدة اليومية الورقية بحساب على فيسبوك وتويتر وغيرهما، أصبحت الأخبار أسرع وأغزر من أن تصدر مرة أو مرتين يوميًّا، أما فيما يختص بالإبداع فلم تستطع وسائل التواصل في جميع أنحاء العالم أن تلعب دور المبدع وتستبدل الروايات والقصص والأعمال الفكرية بتغريدة أو ستاتس على فيسبوك، لم يهجر الناس الكتب بعد، ويبدو أنهم مازالوا في احتياج إلى ممارسة فعل القراءة بالشكل الكلاسيكي بغض النظر عن المحتوى والذوق الذي اختلف كثيرًا على مدار عقود.