تقف هذه السلسلة من الحوارات كل أسبوع، مع مبدع أو فنان أو فاعل في إحدى المجالات الحيوية، في أسئلة سريعة ومقتضبة حول انشغالاته وجديد إنتاجه، وبعض الجوانب المتعلقة بشخصيته، وعوالمه الخاصة.
ضيف حلقة الأسبوع الكاتب حسن بيريش
كيف تعرف نفسك في سطرين؟
يراع مصاب بهذيان المعنى، يلاحق جموح الكلم كي يصير له صيت، عبره يعثر على فيوض ذاته، ويتعثر في بقايا ذاكرته.
شريد أنا، وتائه في فلوات الحبر.
ماذا تقرأ الآن؟ وما هو أجمل كتاب قرأته؟
أقرأ “طوق الحمامة” لابن حزم، حتى أدرك الفرق بين هوى الفقهاء وفقهاء الهوى !
أجمل كتاب هو الذي لم أقرأه بعد. القراءة، مثل الكتابة، حلم مؤجل حتى مطلع الغبطة.
متى بدأت الكتابة؟ ولماذا تكتب؟
بدأت الكتابة في سن مبكرة، ربما لأني ترعرعت في حي كان مزار كبار كتاب العالم، وهو “السوق الداخلي” بطنجة، الذي حضر، كخلفية مثيرة، في نصوص روائية لكبار مبدعي العالم.
لا أعرف: لماذا أكتب ؟ ما أدركه أنني حين أشرع في الكتابة، حين أشرع في الحبر، لا أبتغي فكاكا من هذا الإدمان الباذخ المغذي للدخائل.
ربما أنا أكتب كي أتحرر من ذاتي وأبحر في حيوات تتخطى تخوم حياتي.
أنا دائما أقول وأجهر: الكتابة حياة ثانية.
ما هي المدينة التي تسكنك ويجتاحك الحنين إلى التسكع في أزقتها وبين دروبها؟
طنجة هي المدينة التي تسكنني دوما، وأظن متيقنا أنني أسكنها أحيانا.
بينما تطوان هي المدينة التي أخلد فيها إلى هوى أعماقي، وهي التي تمنح لذاكرة خطوات عمري الكثير من الزهو بالقلب والروح.
ثمة مدن تأتينا على شكل هدية، وأخرى تأتينا على هيئة حلم. لذا، نحن نرتبط بالأمكنة كي نهزم الأزمنة.
هل أنت راض على إنتاجاتك وما هي أعمالك المقبلة؟
أعتقد أنني كاتب لم يحقق بعد تطلعات دواته. بمعنى أن حبري لم يصل بعد إلى بغيته. من هنا، أعتقد جازما أن كتاباتي ما تزال قيد خوف ما من قارئها، ذاك الذي يخيم ظله على شاشة كتاباتي.
ويبدو لي أن تجربتي في كتابة البورتري، حققت بعض تجلياتها. لذا، يتبدى لي أن كتاباتي هذه تمشي حثيثا صوب توقدها.
الآن أشتغل في إنجاز الجزء الثاني من كتابي: “الخطاب الإبداعي للمرأة للمرأة: تجوال في نصوص لا تستر عريها”، وهو تجربة أعتبر أنها جديدة في التعاطي مع تبديات الأدب النسائي.
متى ستحرق أوراقك الإبداعية بشكل نهائي وتعتزل الكتابة؟
لن أحرقها أبدا. ذلك لأن في إحراقها إحراق لكل القيم التي طوحت بي صوب الكتابة. حين أخلو بأوراقي الإبداعية، لا يكون ثمة في العالم كله من هو أكثر اغتباطا مني.
أتعرف يا صديقي البهي: الكتابة ثراء فاحش عبره نهزم قبح الحياة، وننتصر للجمال الهارب.
من حق ماجدة الرومي أن تجهر: “اعتزلت الغرام”، لكن ليس من حقي أنا أن أهمس: اعتزلت الحرف.
ثم.. ما الذي سيبقى لي، ما الذي سأبقي عليه، إن أنا اعتزلت عشقا زاولته ء وزاولني ء على مدى عشرين سنة من فواتن الأوقات؟!
ما هو العمل الذي تمنيت أن تكون كاتبه؟ وهل لك طقوس خاصة للكتابة؟
تمنيت لو كنت أنا من كتب رواية “ذاكرة جسد” للرائعة أحلام مستغانمي. هذا النص المدهش الموار بالزهو، لا أعرف كيف أصف إعجابي به.
طقوسي، على غرار لغتي، تمتح من الجنون، ويمتح منها الهذيان. وبينهما معا: ليس ثمة سوى الانضواء داخل أرخبيلات مصابة بشجون وسجون !
أولا: احتراق لذة السجائر في أتون وقت الكتابة.
ثانيا: الإصغاء إلى روائع الطرب العربي كي تصغي لي اللغة وأنا أحاورها من مسافة التجلي.
ثالثا: الشروع في الكتابة تحت الهواء الطلق، لا في الفضاأت المغلقة. إذ في الضجيج أعثر على جلبة أسلوبي، وفي أرومتي تعثر علي الجلبة.
رابعا: أتعطر كي أعطر حروفي. لا كتابة عندي دون ضوع العطر في ثياب لغتي، ولغة ثيابي.
هل المبدع والمثقف دور فعلي ومؤثر في المنظومة الاجتماعية التي يعيش فيها ويتفاعل معها أم هو مجرد مغرد خارج السرب؟
ما كانت الكتابة يوما تغريد خارج سرب الآخر. صحيح أنها تنأى عن أيما سرب وقطيع، بيد أنها تؤثر بمرور الوقت وإن بدا لنا عكس ذلك.
المثقف حتى حين يكون معزولا، فهو يصر على ممارسة تأثيره وسط شعب لا يقرأ.
ماذا يعني لك العيش في عزلة إجبارية وربما حرية أقل؟ وهل العزلة قيد أم حرية بالنسبة للكاتب؟
أتعرف؟ أن تحيا في قبضة العزلة، هذا يعني أنك تحيا خارج الذوات / داخل ذاتك. في العزلة ثمة توكيد أكبر وأكثر للحرية. إنك تكون حرا طليقا لما تسكن عزلتك وتسكنك عزلتك.
ما هي بقيد العزلة حين نتأمل فداحتها، وحين نتأنى أساها. أذكر أنني ما حققت تطلعات يراعي إلا حين وجدت نفسي معزولا داخل جدران قلبي، بعد الهلع العام الذي عشناه جميعا.
لو تعلم كم مدين أنا لعزلة “كورونا”، فهي من خولت لي أن أكتب مائة نص عن وعثاء عزلتي. مثلما هي التي منحتني فسحة كتابة مائة بورتري عن ألمع الكاتبات المغربيات والعربيات، ضمنتها في كتابي: “الخطاب الإبداعي للمرأة” ، في جزءين.
شخصية في الماضي ترغب لقاءها ولماذا؟
لطالما تمنيت لقاء أبي حيان التوحيدي، هذا الموسوعي العجيب، الذي كتب عصره بعصير قلبه.
لو جلست معه وبيننا فنجان حديث، لكنت وجهت له السؤال الذي يؤرق حبي له: لماذا أحرقت كتبك في تنور قلبك، أنت الذي أشعلت عصرا بأكمله في لهيب محبرتك !؟
ماذا كنت ستغير في حياتك لو أتيحت لك فرصة البدء من جديد ولماذا؟
يآاه ؟ كنت سأتغير وأغير وأذهب نحو كل تغير. إننا للأسف لا نملك ترف العودة إلى ما انصرم، إلا بواسطة الحنين وحده.
لا أعرف ماذا سأغير، ولا كيف سأغير، ولماذا سأتغير. ما أدركه أن خطوات كثار مشيتها وكانت فيها عثرات كم تمنيت لو تفاديت الوقوع في فخاخها.
ماذا يبقى حين نفقد الأشياء؟ الذكريات أم الفراغ؟
الفقد في حد ذاته فراغ مهول يقتات من هواجس القلب. وحدها الذاكرة من تتقن استعادة ما ضاع منا كي تبكيه. النحيب دوما هو جزء من ذاكرتنا. لذا، كلما ضاع منا شيء، نهرب منه كي نلوذ بذاكرة ثكلى.
صياغة الآداب لا يأتي من فراغ بل لابد من وجود محركات مكانية وزمانية، حدثنا عن كتابك ”شكري .. وأنا”. كيف كتب وفي أي ظرف؟
هذا الكتاب امتحنت فيه قدرتي على فهم محمد شكري. لذلك، هو يترصد خطواتي داخل خطوات شكري. جاء من صداقة سباعية الزمن، فسعى إلى إبراز أوجه شكري وهو بمنأى عن الكتابة.
في نفس اليوم الذي وصلني نعي الشحرور محمد شكري، تأبطت كامل وجعي وجماع حزني، وذهبت إلى مقهى “كفاليا”، وهناك شرعت في كتابته، وأنا مكتظ بأبجديات الفقدان.
ما جدوى هذه الكتابات الإبداعية وما علاقتها بالواقع الذي نعيشه؟ وهل يحتاج الإنسان إلى الكتابات الابداعية ليسكن الأرض؟
بدون إبداع لا يمكن للواقع أن يرتفع إلى مستوى الأرض. يبدو لي أن العلو لا يكون بغير الانكباب على كتابة مثالب الأرض، حيث نسكن.
كيف ترى تجربة النشر في مواقع التواصل الاجتماعي؟
حرية ممتدة من الأسود إلى الأزرق.
أجمل وأسوأ ذكرى في حياتك؟
الحب، بما يعنيه من غبطة امتلاء، بما يرمز له من حضور في الغياب، هو أجمل ذكريات القلب.
أما الأسوأ فقد عشت منه الكثير. بيد أنه لم يقترب من الكتابة. لذا، فهو محتمل نوعا ما.
كلمة أخيرة أو شيء ترغب الحديث عنه؟
أود أن أقول لك: أنت محاور تجمع بين البراعة في طرح السؤال، والمكر في ملامسة الجواب.