لقد دأبت وزارة التربية الوطنية على وضع شعار لها بداية كل موسم دراسي، تختاره عن دراية وتركبه بعناية وهي ترجو به ومن خلاله إثارة اهتمام كل الفاعلين وتوجيه جهود كل المتدخلين للتضافر والتعاون على الحد من مظاهر تربوية مخلة عميقة وتحديات ومستجدات جوهرية علاجها ولا شك سيؤدي إلى علاج غيرها من الظواهر المعيقة والتي ترتبط بها بشكل من الأشكال وهي تؤسس لكل مظاهر الإعاقة والتوترات المزمنة والمستفحلة في القطاع، وكل هذا سيساهم ولاشك في وضوح الرؤية ودقة الوسائل ومعيارية المؤشرات لتحقيق المقاصد التربوية والغايات التنموية والقيم الوطنية الحضارية التي شئنا أم أبينا ما وضعت المدرسة إلا لتحقيقها ورعايتها وإذ بظروفها الحالية وروتينها اليومي أصبحت وكأنها تغتالها بضراوة من فضاءاتها وتجتثها بلا هوادة من كل الفضاءات المجتمعية؟.
جميلة إذن، هي سياسة وضع الشعارات التي دأبت على وضعها الوزارة، وأجمل منها أن تكون هذه الشعارات والمعالم الارشادية قد اختيرت بعناية وهي تطفح بكل معاني التربية والواقعية والإصلاح.. والطموح والجدية والنجاح، وهو ما توفقت في مجمله الوزارة إلى درجة كبيرة ويقف عليه بكل يسر وسهولة كل مستقرئ لشعاراتها، على الأقل في السنوات الأخيرة:
- 2016 : ” التربية والتكوين مسؤولية لتنمية شاملة “.
- 2017 : ” دخول مدرسي في محيط نظيف وآمن ”
- 2018 : ” الضبط والانضباط رهان مدرسة مواطنة”
- 2019 : ” من أجل مدرسة مواطنة ودامجة “.
- 2020 : ” من أجل مدرسة متجددة ومنصفة”.
- 2021 : ” من أجل نهضة تربوية رائدة لتحسين جودة التعليم”
- 2022 / 2023 / 2024 : ” من أجل مدرسة ذات جودة للجميع”.
التربية.. التكوين.. التأهيل.. المواطنة.. السلوك المدني.. المحيط الآمن.. الدمج والإنصاف.. تكافؤ الفرص .. مدرسة النجاح والشراكة والانفتاح.. الرقمنة والتناوب والجودة.. إلى غير ذلك من الشعارات الجيدة والعميقة، ولكنها – مع الأسف – تبقى مجرد شعارات أو تكاد، ولم تستطع إقناع أي كان حتى واضعيها المنصفين بشيء من أثرها الإيجابي على أرض الواقع الذي لا زالت تستفحل فيه مظاهر التردي والقلق التربوي على مختلف المستويات وفي صفوف شتى الفئات، التي لا تخجل من أن تضع لها شعاراتها الحقيقية مقابل الشعارات الوهمية للوزارة، ومن ذلك:
- ”تزاحموا تراحموا” ، تعبيرا عن ظاهرة الاكتظاظ التي لا تطاق.
- ”العكر فوق الخنونة”، سخرية من صباغة الأقسام في عهد “حصاد”.
- ”لازالت دار لقمان على حالها”، تعبيرا عن غياب أي جديد في المؤسسة.
- ”اللي في راس الجمل في راس الجمال”، توقيع المذكرات وعدم تطبيقهـــــــا.
- ”اللي بغا يربح العام طويل”، تأسيسا للكسل والغياب والفرار عند التلاميذ
- ”عادت حليمة إلى عادتها القديمة”، استسلام أمام تفشي الفوضى التربوية.
عادت حليمة إلى عادتها القديمة، والمؤسسة التعليمية إلى ضعفها وهشاشتها التجهيزية والتدبيرية والتحصيلية، ليبقى السؤال هو لماذا شعارات التغيير والإصلاح للوزارة لا تمطر غيمتها على حقول المؤسسات، فتسقي ما بحدائقها من قحط وجدب، و ما بمختبراتها من فقر وسغب، وما بأساتذتها من نصب وتعب، وما بفصولها من اكتظاظ وشغب، لعل طموح التحصيل التربوي النبيل يتيسر بحق ويزهر بكثافة ويكون دواء جراح وبلسم أفراح على الجميع؟. التأهيل، في ما نؤهل نشئنا والبطالة والهجرة لبدت كبد سمائهم وعكرت صفو حياتهم؟، السلوك المدني، كيف يتمثله نشء في محيط لا يوفر لأبنائه غير كثير من خدمات العنف؟، الشراكة، كيف تزهر في مؤسسات بعض مدراءها شعارهم : ” هذا نهار الأحد، حد ما يسال في حد”؟، والجودة، من أين ستراها مؤسسة نائية لا زالت معركتها اليومية، كيف تؤمن لتلاميذها بعض المواصلات والاقامات ولو بنصف تغذية ونصف مبيت ربما بربع كسرة و نصف سرير.. ههييهه؟.
يقول الدكتور “عبد الهادي مفتاح” في مجلة عالم التربية عدد 19 ص 217 : ” إن هناك فراغا وخلو المقررات والبرامج التعليمية من كل محتوى حقيقي، وليس ذلك بسبب غياب المضمون والجدية والجودة، وإنما بفعل المساطير الإدارية والقرارات التنظيمية التي تعطي الأولوية للشكل على حساب المضمون، كتسريع وثيرة الإنجاز الفصلي لهذه البرامج لاعتبارات قانونية وتنظيمية أكثر منها معرفية علمية وتحصيلية، مما يولد الشعور بانعدام المسؤولية لدى الفاعلين التربويين، على اعتبار أن المسؤولية الوحيدة التي يحاسبون عليها تتمثل في مدى انضباطهم وانسجامهم مع الشكليات القانونية”؟. فأية مدرسة هذه التي لا يكون فيها للأستاذ حق الاجتهاد في عهد التشاركية واللامركزية والواقع الميداني أولا، أما تكفي هذه القيم والدوافع المشبعة بالمواطنة والاستقامة والخبرة أن تشفع له في ذلك؟. أم أن المقررون دائما هم من يقررون والمنفذون هم من ينفذون، وفيهم تمسح كل إخفاقات وكوارث المدرسة العمومية وكثير من مقارباتها غير الملائمة كالنجاح دون العتبة بسبب الخريطة المدرسية واستثقال التكلفة المادية للتعليم و قتل الروح النضالية والوحدوية في القطاع، وغير ذلك مما كان أصل الإشكال واستحلاه المقررون؟.
وهكذا يسترسل الدكتور والباحث الجامعي في تسجيل عدد من الملاحظات والتساؤلات عن القيم التي تجعلنا نخجل من التقييم الحقيقي لمخططات الإصلاح وندور حول شكلها بدل جوهرها؟، وبأية قيم نعترف بضعف وغياب تحقيق الكفايات الأساسية في مختلف المستويات التعليمية، ثم نتجرأ كمسؤولين بمواساة أنفسنا بأننا لم نقصر في بدل مجهودات جبارة وحتى الاستعجالية منها؟، وبأية قيم يستسلم الأستاذ المربي أما ضعف مستوى التلاميذ فلا يبذل جهدا في التجديد والتربية والتواصل وكأن شعاره قد أصبح “قل كلمتك وخذ راتبك وامشي”؟، ويستسلم التلاميذ كردة فعل لذلك ليقلبوا الفصول ساحات للانحرافات من تأخر وغياب وكسل وغش وتحرش وعنف وتكسير وإدمان.. حتى إذا كان الفشل والتعثر الدراسي مصيرهم، افتخروا بذلك.. “معاود ومطرود وبخير”؟، على ما استقوا من آبائهم وثقافة المجتمع التي أصبح فيها الكثيرون يرون بأن التعليم والمدرسة والتحصيل والشواهد.. مجرد عناء فارغ ومضيعة للوقت دون طائل غير البطالة والعنادية والاستلاب والاستهلاكية والهجرة السرية للقضاء في الأعالي؟.
إشكالاتنا التربوية قبل أن تكون وسائل وإمكانات.. فضاءات ومذكرات.. مشاريع وميزانيات.. فهي في المجمل والأساس إشكالات في الرؤى والقيم والانسان، ولا يمكن أن نعالج ما هو قيمي بمداخل وحوامل غير قيمية، عبثا نحاول أن نعالج ما هو سياسي (مشروع تربوي قيمي مجتمعي) بما هو اقتصادي مثلا (ميزانيات قروض ومساعدات)؟، لا يمكن أن نكسب معتقد إنسان رافض وقناعته فبالأحرى موقفه وتعبئته وفعله وسلوكه ولو وهبنا له كل أموال قارون وهامان وبنينا له مؤسسات فرعون والسامري، فسيبقى الرفض هو الرفض والمقاومة هي المقاومة، وغاية ما قد يحصل هو أن يكون هذا الرفض وهذه المقاومة ظاهرة أو خفية مؤقتة أو مستمرة، فكم عرف القطاع من زيادات مادية تلو زيادات وهي ضرورية، ولكن، هل واكبتها نجاحات أم إخفاقات؟. مهزلة “التعاقد” ومأساة “التقاعد” خير جواب، وخراجهما الحنظلي المر الفاره أيضا خير جواب: ” 4/3 من تلاميذ المستوى الابتدائي لا يتقنون الكفايات الأساسية وهي القراءة والكتابة والحساب، و100/13 من يصلون إلى مستوى الحصول على البكالوريا، و100/5 من ينهون الدراسة الجامعية بنجاح”؟. وفي غياب قيم الصدق والمواطنة والجدية والاستقامة والكفاءة والابداع.. هل يمكن أن ننتظر غير المزيد من هذا الوحل؟. حفظنا الله وإياكم.. حفظ الله النشء والوطن.