في منتصف عقد الستينيات من القرن الماضي، كان ينوي الطالب الباحث الشاب احمد التوفيق انجاز رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في التاريخ بجامعة محمد الخامس بالرباط، حول موضوع حرب الريف ومقاومة محند بن عبدالكريم الخطابي. وفي نقاش أولي مع الاستاذ المشرف، المؤرخ جرمان عياش، مده هذا الأخير بوثيقة تاريخية نفيسة، وهي عبارة عن سجل/ كناش حول ضريبة الترتيب التي كان فرضها السلطان المولى عبدالعزيز في بداية القرن 20، وسجل يضم إحصائيات مهمة جدا حول الممتلكات وقيمة الضريبة التي وجب على كل أسرة دفعها المخزن حسب ما تملكه من مواشي وحقول واشجار، ويضم هذا السجل حوالي 40 صفحة، كان ممثلي المخزن وأعوانه وقياده حرروه في منطقة إينولتان بضواحي مدينة دمنات.
جرمان عياش، رمى بجمرة حارقة بين أيادي أحمد التوفيق، وهو لم يكن يعلم أنه قد أطلق شرارة ثورة كبيرة ونهضة عظيمة في كتابة تاريخ المغرب، بأسلوب جديد وبمنهج جديد..
وكذلك، كان قبض التوفيق على الوثيقة وقرأها وتفحصها ثم انطلق لدراسة المجتمع المغربي خلال القرن التاسع عشر، بين 1850 و 1912 من خلال قبيلة إينولتان. وهي الدراسة التي نوقشت في جامعة محمد الخامس بالرباط سنة 1976، وبها جعل التوفيق كتابة تاريخ المغرب تمشي على أقدامها بعدما كانت تمشي على رأسها. لأن كتابة تاريخ المغرب قبل إينولتان كانت تتم بعيون غير عيون المغرب، ويكتب بأنامل غير أنامل تربة المغرب، التوفيق بدأ مدرسة جديدة لكتابة التاريخ داخل الجامعات المغربية. التي تبدأ التاريخ من الأسفل وليس العكس، التي تنطلق من المحلي إلى المركزي، تاريخ قبيلة وتاريخ مجال صغير الذي يتبلور ويتفاعل في مجال أوسع. تاريخ البادية البعيدة عن المركز والمدينة، وهي المدرسة الأمازيغية في كتابة التاريخ التي بدأها المؤرخ المختار السوسي وطورها كل من التوفيق و صدقي علي ازايكو…
إن دراسة التوفيق لقبيلة إينولتان هي ورش متحرك ومتجدد في تاريخ المغرب، ورش يدرس تاريخ منطقة جبلية ومجتمع بسيط، بمنهج تاريخي صارم لكنه منفتح عن جميع علوم الإنسان والمجال.
إينولتان هي سليلة تجمع أمازيغي كبير يضم عشرات من المجموعات والقبائل وهو إيسكورن أو هسكورة، أو سكورة حاليا، وهو حلف سياسي امازيغي قوي كان يقطن ويتحرك في مجال واسع جدا يضم السفوح الجنوبية للاطلس الكبير المطلة على وارزازات ودادس ثم السفوح الشمالية المطلة على السهول الممتدة إلى تادلة وداي ودكالة قبل حلول السراغنة بالمنطقة…
تفكك هذا الحلف الامازيغي الكبير، في السهول والقمم الجبلية، وتفرعت منه مجموعات كثيرة منها إينولتان التي تلتف حول عاصمتها السياسية والتجارية دمنات، وتقطع مجال إيسكورن وتجزأ بوصول مجموعات جديدة وافدة خاصة في السهول بمنطقة السراغنة وما إليها مع بداية القرن 16م إثر تحولات تاريخية واجتماعية وسياسية متداخلة…
لفهم جزء من هذا التحول البنيوي لابد من قراءة أطروحة إينولتان لأحمد التوفيق….