لم أكن أرغب في نشر هذه التدوينة، لأني ما قمت به أملاه علي ضميري ولا داعي ليعرف به الأخر. لكن كثرة التدوينات والفيديوهات والصور الموثقة لجمع التبرعات وتوزيعها، جعلتني أكتب هذه الحروف لإبداء بعض الملاحظات انطلاقا من تجربتي الشخصية.
يوم الأحد الماضي، قمت معية ثلة من الأصدقاء بزيارة ميدانية للمناطق المتضررة من الزلزال الذي ضرب المغرب، في مبادرة إنسانية تضامنية لتقديم يد العون للمنكوبين، هذه المبادرة الأولى من نوعها التي انطلقت من الريف.
في البداية كانت مبادرة رمزية لتقديم الدعم المعنوي أكثر مما هي لتقديم الدعم المادي، لكن المساهمين في هذه المبادرة من الأصدقاء المقربين وبعض أفراد عائلاتنا، كان لهم رأي آخر من خلال حسهم التضامني الذي جعل هذه المبادرة تكبر وتتوسع لتشمل عددا مهما من الأسر المنكوبة، لكن لم نصور أحدا ولم يصورنا أحد.
وهذه بعض الملاحظات انطلاقا من الميدان وما ينشر على مواقع التواصل:
- سكان هذه المناطق المتضررة من الزلزال كانت منكوبة قبل هذه الكارثة الطبيعية، فلا يمكن وصف مدى عزلتهم عن هذا العالم، فمصطلحات التهميش أو العزلة غير كافية للتعبير عن حالهم وواقعهم؛ إنهم أناس من عالم آخر.
- غياب تام للدولة وممثليها بهذه المناطق، فمن خلال حديثنا مع السكان تبين لنا أن لا أحد زارهم ولا اهتم بحالهم، فالناجون من الموت هم من تكلفوا بإنقاذ من هم تحت الأنقاض وإسعاف الجرحى بشكل بدائي طبعا. هذا الغياب للدولة لديه جانب إيجابي (إن صح التعبير) إذ سمح لنا بتوزيع المساعدات وإيصالها لمن يستحقها بشكل مباشر دون تدخل أو توجيه من أحد.
- ليست العبرة في جمع المساعدات العينية أو المادية، العبرة لمن يوصلها إلى من يستحقها، فمن خلال رحلتنا إلى الدواوير المنكوبة صادفنا العديد من القوافل وقد توقفت عن المسير بعدما سئمت من طول الطرق غير المعبدة ووعورتها وخطورتها، هناك مسالك إن انحرفت عجلات سيارة لعشرين سنتمترا سيكون من فيها في عداد المفقودين. إضافة إلى دواوير لا يمكن الوصول إليها على متن السيارات، ولبلوغها يجب السير لساعتين او أكثر على الأقدام او على الدواب. فكم من قافلة عادت أدراجها لتفرغ حمولتها في إحدى المراكز الحضرية أو شبه الحضرية.
- لكي تصل إلى الدواوير البعيدة التي لم يصلها أحد، عليك السير لساعات طوال، وهذا ما حدث معنا، فيوم كامل بنهاره وليله من السير تمكنا من زيارة ثلاثة دواوير لم تنل حقها من الدعم. فمثلا الدوار الأول يتكون من 20 أسرة، منهم من قضى نحبه في الزلزال، فقدوا كل شيء، منازل (إن صحت تسميتها بمنازل) الدوار هدمت بشكل كامل، بهائمهم -التي تعتبر رأس مالهم- نفقت، رائحة جثثها تنبعث من تحت الأنقاض. هذه الأسر العشرين بكاملها تعيش في خيمة واحدة وهي كل ما في ملكها الآن. هذه الخيمة تستغلها النساء والأطفال بينما الرجال يقضون النهار والليل بطولهما في العراء.
- يجب التنويع من المساعدات المقدمة والتنسيق بين القوافل، فالساكنة بأمس الحاجة لكل أنواع المساعدات، وأولها الخيام والأغطية والملابس الشتوية. برودة الشتاء بدأت تلقي بظلالها على هذه الجبال، وهذا ما عايناه من خلال قضاء ليلة هناك.
- من ليس بقادر على توزيع المساعدات وإيصالها للمناطق المنكوبة وسكانها، لا داعي لجمعها أصلا، ولا داعي لتكرار أخطاء زلزال الحسيمة، فهناك من اغتنى بهذا الزلزال بمتاجرته في مآسي المنكوبين، بعدما نصب نفسه فاعلا جمعويا وممثلا للساكنة، فكم هائل من المساعدات تم إعادة بيعها خلال زلزال 2004، ومساعدات أخرى تم حرقها بعدما انتهت مدة صلاحيتها وهي مخزونة في المستودعات دون أن يستفيد منها أحد. فليس من المستبعد أن يحدث ذلك مرة أخرى، فعديد من القوافل تحط رحالها بالمراكز الحضرية وتفرغ حمولتها في مستودعات بهدف توزيعها من طرف الفاعلين الجمعويين. (لا أشك في نزاهة أحد، لكن الاحتياط واجب).
- راقت لي كثيرا تلك المبادرات التضامنية التي إن عبرت على شيء فإنما تعبر عن روح التضامن التي تميزنا. لا أبخس عمل أحد، لكن من الصعب أن يصبح الشخص بين عشية وضحاها فاعل خير، فهذا الأمر يتطلب حسا نضاليا وأخلاقيا تربى الإنسان عليه.
- نكبة هؤلاء المتضررين من الزلزال ستطول كما يبدوا، وهذا ما يستدعي منا النفس الطويل ومنهم أيضا، فلا داعي للتسرع وإغراق المنطقة بالمساعدات خلال أسبوع واحد، وبعد ذلك يعود كل منا لانشغالاته ومشاغله، بل يجب على هذه القوافل أن تكون منتظمة وبشكل مستمر إلى غاية إعادة إعمار المنطقة وعودة الحياة إلى مجراها.
- تصوير المنكوبين وهم يتسلمون قفف الدعم ليس من شروط العمل الانساني، بل العكس من ذلك تماما، فالحفاظ على كرامة الشخص أولى من تقديم المساعدة له. أدخلوا الفرح على قلوب الأطفال دون تصويرهم، وفروا للنساء مواد التنظيف الخاصة بهن دون تصويرهن، مدوا يد العون للرجال والشباب دون تصويرهم. وإن صورتم ليعلم المتبرعون أين ذهبت تبرعاتهم فلا تصوروا الوجوه.