شكلت الديمقراطية أساساَ وضرورة لتحقيق المطالب الأمازيغية، لدرجة أنه لا يمكن الحديث عن الأمازيغية بدون ديمقراطية والعكس صحيح، أي لا ديمقراطية في غياب الأمازيغية.
استوعبت النخبة الأمازيغية جيداً هذه الجدلية القائمة بين الاثنتين، ولهذا دعمت تاريخيّاً مطلب بناء الديمقراطية، كما أنها اصطفت إلى جانب القوى المؤمنة والمناضلة من أجل دمقرطة الدولة والمجتمع، وأدى بعض مناضلي ونشطاء الحركة الأمازيغية ضريبة التضييق والاعتقال وداقوا مرارة السجون.
صحيح أن مطالب الحركة الأمازيغية ذات صبغة حقوقية في أبعادها المختلفة المتعلقة باللغة والثقافة والهوية، ومرتبطة بإقامة نظام ديمقراطي، إضافة إلى أن الخطاب الأمازيغي نفسه مبني على قيم التنوع والتعدد والاختلاف والنسبية والعلمانية بمفهومها المشير إلى الخصوصيات السوسيو-ثقافية للمجتمع الأمازيغي.
ولهذا شكلت الحركة الأمازيغية عبر مراحل حليفاً لكل القوى التواقة إلى الديمقراطية ببلادنا، ونجد نخبها حاضرة في كل المحطات النضالية المتعلقة بمسار البناء المؤسساتي الديمقراطي، وآخر هذه المحطات التاريخية، الحراك الشعبي الإقليمي الذي عرف بثورات “الربيع العربي”، والذي تجسد في المغرب عبر تجربة “حركة 20 فبراير”، إذ كان نشطاء الحركة الأمازيغية في الطليعة رغم مضايقات بعض العقليات، كما كانت المطالب الأمازيغية حاضرة بقوة في المقدمة.
لقد استطاعت الحركة الأمازيغية بالرغم من طابعها النخبوي، واختلاف مكوناتها أن تنجح عبر مراحل متدرجة في إقناع الدولة وقطاع واسع من الطبقة السياسية بالإيمان بأن معادلة تحقيق الديمقراطية تبقى غير مكتملة في غياب الأمازيغية، وهذا الأمر تفاعل معه بحكمة وبعد نظر جلالة الملك محمد السادس الذي احتوى المطالب الأمازيغية، ووضع نفسه في مرتبة “الأمازيغي الأول”، كما وضع أساس تعاقد لغوي بين الدولة والنخب، جاعلاً من المسألة الأمازيغية أحد محاور المشروع الديمقراطي التنموي الذي أطلقه في بداية حكمه.
أعتقد أن الدولة أدركت جيداً أبعاد المسألة الأمازيغية باعتبارها احد دعائم النظام الديمقراطي، وتجاوزت في منظورها بكثير الأحزاب السياسية التي لم تجد من مخرج سوى مراجعة طروحاتها وتصحيح مواقفها السياسية للحاق بالمنطور المتقدم للمؤسسة الملكية في تعاطيها مع هذه المسألة. وهذا التحول تعرضنا له بتفصيل في مؤلفنا الأخير تحت عنوان “المسألة الأمازيغية بالمغرب: من المأسسة إلى الدسترة” الصادر بمطبعة النجاح الجديدة بالدار البيضاء 2023.
فالديمقراطية والأمازيغية اليوم وجهان لعملة واحدة، فلا ديمقراطية بدون الأمازيغية. والأمر كذلك فلا يمكن تحقيق المطالب الأمازيغية في غياب نظام لا يؤمن بالديمقراطية. ولهذا السبب نفهم لماذا تهاجم القوى المعادية للديمقراطية المسألة الأمازيغية، معتبرة إياها مرة تخدم الأجندة الخارجية، ومرة ثانية ترمز إلى التفرقة والتشتث وما شابه ذلك، ومرة ثالثة تتهم النخب الأمازيغية بتوجهها العلماني!
إن الأمازيغية اليوم تحولت إلى قضية دولة بامتياز، ولم تعد تنحصر في ما هو مرتبط باللغة والثقافة والهوية، بل كما قال عزيز أخنوش رئيس الحكومة الذي كان محقاً في كلامه بمناسبة إطلاق المشاريع المتعلقة بتعزيز استعمال اللغة الأمازيغية بالإدارات العمومية بمدينة الخميسات، حين اعتبر أن الاعتراف بالأمازيغية لا يُمكن أَن يقتصر على الحقوق الثقافية واللغوية فقط، بل يجب أن يمتدّ ليشمل كذلك تَدارك تَأَخُّرِ التنمية الاجتماعية والاقتصادية.
تعرضت المسألة الأمازيغية عبر التاريخ لإنكار ممنهج، كما يقول الدكتور عبد اللطيف أكنوش، بفعل اختيارات سياسية وثقافية وأيديولوجية، تعود في بدايتها إلى نموذج الدولة المركزية الذي تم اختياره للمغرب المستقل، وهو النموذج اليعقوبي القائم على التأحيد من أجل التوحيد كما يقول الأستاذ أحمد عصيد، والذي يلغي كل عناصر التنوع في الخصوصيات السوسيو- ثقافية للمجتمع.
ثم عانت من وطنية “الحركة الوطنية”، وما تلا ذلك من أيديولوجية الفكر القومي العروبي. ثم عانت كذلك من أيديولوجية الإسلام السياسي. لكن التحولات الكبرى التي عاشها العالم منذ منتصف عقد الثمانينيات من القرن الماضي أسقطت الأيديولوجيات الكبرى مقابل سيادة ثقافة حقوق الإنسان وهيمنة اقتصاد السوق، وغير ذلك من العوامل التي ميزت نظاما دوليا جديدا منح للبعد الثقافي والهوياتي مساحة للبروز.
وكان لهذه التحولات تأثيرها وآثارها الإيجابية على المغرب، إذ سرعان ما دخلنا في مرحلة انفتاح سياسي موجه وحذر، استفادت منه الحركة الأمازيغية كأحد مكونات الحركات الاجتماعية الجديدة الحاملة لمطالب ديمقراطية، وهو الأمر الذي دفع النظام السياسي ببلادنا إلى بداية الانفتاح السياسي عليها، وتجسد ذلك في خطاب الملك الراحل الحسن الثاني بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب سنة 1994.
إن تناول المسألة الأمازيغية اليوم هو تناول لجزء من إشكالية الديمقراطية، باعتبارها جزءاً من الحقوق الثقافية واللغوية، في زمن أصبحت فيه الثقافة مدخلاً أساسياً لتدبير التعدد والتنوع، وإدارة الاختلاف والتوازن، وضبط والتحكم في النزاعات، وتحقيق التعايش، وإقرار التماسك الاجتماعي والاستقرار السياسي والتنمية المستدامة.