لا أعرف إن كان النظام الجزائري يدرك حجم الصورة التي يرسمها عن نفسه للعالم، لكنه بالتأكيد يصرّ على تكرار الأخطاء نفسها. اعتقال بوعلام صنصال، ثم خبر فرار الجنرال حداد، ليسا حادثتين منفصلتين. إنهما جزء من لوحة واحدة تكشف ما وصلت إليه الجزائر من ضياع بوصلتها التاريخية.
لقد كان بوسع الجزائر أن تكون قاطرة شمال إفريقيا نحو الديمقراطية والتعاون الاقتصادي والثقافي. كان بإمكانها أن تتحول إلى مركز ثقة دولي، شريك حقيقي لجيرانها، نموذج للانفتاح. لكنها اختارت البقاء رهينة خطاب الحرب الباردة، والاصطفاف الإيديولوجي، والهاجس الأمني المهووس الذي يرى في السؤال تهديدًا، وفي التفكير مؤامرة.
بوعلام صنصال، الذي لم يرفع سلاحًا يوماً، عُوقب لأنه كتب. ولأنه تجرأ على طرح الأسئلة التي تخشاها الدولة. لم يكن معارضًا سياسياً بالمعنى الكلاسيكي، بل كاتبًا يسائل التاريخ والذاكرة. لكن النظام فضّل أن يسجنه بدل أن يرد على أسئلته. تلك هي اللحظة التي ينهار فيها المعنى: عندما تصبح الكلمة أخطر على السلطة من الرصاصة.
ثم جاء خبر فرار الجنرال حداد، أحد رجال المخابرات السابقين، ليكمل المشهد. الرجل الذي كان يملك مفاتيح ملفات حساسة في الدولة يهرب في قارب هجرة سرية إلى إسبانيا. أي رسالة تُرسلها هذه الصورة للعالم؟ دولة تخاف كاتبًا عجوزًا، وتفقد السيطرة على جنرالاتها، وتحوّل نفسها إلى مسرح صراعات داخلية لا تنتهي.
هذه ليست مجرد أزمات عابرة، بل مؤشرات على عمق الخلل. العالم اليوم يرى الجزائر أقرب إلى كوريا الشمالية أو إيران منها إلى دولة متوسطية منفتحة. يرى نظامًا لا يثق في مواطنيه ولا في نخبه ولا حتى في أجهزته. ولهذا يفقدها الثقة الدولية والإفريقية، ويجعلها شريكًا غير موثوق في أي مشروع تكاملي أو استثماري.
إن اعتقال صنصال لم ينجح في إسكات الفكرة، بل جعلها أوسع انتشاراً، بينما هروب الجنرال فضح هشاشة النظام من الداخل. كلا الحدثين يقولان الشيء نفسه: الجزائر تضيّع على نفسها أن تكون دولة المستقبل، وتصرّ على أن تبقى أسيرة الماضي، سجينة عقلية الطوارئ والحرب الباردة.
لقد آن الأوان للنظام الجزائري أن يدرك أن العالم تغيّر، وأن القوة اليوم لا تُقاس بعدد الجنرالات ولا بعدد السجون، بل بقدرة الدولة على بناء الثقة والانفتاح على النقد والنقاش. فالكلمة التي سجنوها، والفكرة التي خافوا منها، هي وحدها القادرة على إنقاذ البلاد من العزلة التي وضعت نفسها فيها.




