LE24
في الجزائر، لا تُعاقب الكلمات على ما تقول، بل على من يقولها. بوعلام صنصال، الكاتب السبعيني، السجين البليغ بصمت الزنازين، لم يُسجن لأنه أراد الفوضى، بل لأنه رفض أن يُسكت التاريخ الذي يُسوَّق له كما تُراد السلطة.
هذا ليس مجرد قمع، بل فضيحة أخلاقية؛ استغلال السّلطة لتكميم القلم، وكتم الصوت، وترهيب المثقفين. هل هذا هو النظام الذي أخبرونا يوم الاستقلال أنه حُماة الحقيقة؟ أي حقيقة هذه التي تصادر؟ أي وطن هذا الذي يُبوّب فيه الرأي ويُسجن فيه السؤال؟
النظام الذي يختبيء خلف جنّازات التشريع ووثائق الأمن، يخشى قلمًا مسنًّا أكثر مما يخشى درعًا جنودًا. لأنه يعرف أن الكلمة هي حيث يبدأ الانهيار؛ أن السردية الرسمية التي لم تُبَح، والقوانين التي لم تُناقَش، والروايات المنفية من الأرشيف هي رقعة من القماش الوطني الممزق، وأي تمزيق إضافي سيكشفها للضوء.
حين تأمر المحكمة باعتقاله، تكون قد أعلنت بطلانًا لشرعية الكلام. حين تدّعي أن وحدتك الوطنية مهددة بمقال، فأنت تعترف بأن كل شيء يقوم على أسسٍ دقيقة مَخفاة، وأن مجرد الأفكار التي تطرح تساؤلًا كفيلة بأن تنزع منك هالة السلطة كلها.
لكن المخزي أن هذا الاعتداء لا يُقابل بصوت واحد يشجب، بل بصمتٍ جماعي من منظمات حقوقية معتبرة، التي تراخت أقلامها في الدفاع، واصبحت مصالح الطاقة والتجارة والدبلوماسية أولى من الكرامة الإنسانية. أن تصمت الحقوقية حين يُسجن صنصال يعني أنك وافقت، ضمنًا، على أن حرية التعبير سلعة تُباع وتُشترى، وأنها ترتبط بصفقات وليس بالمبادئ.
أما الأدهى أن المثقفين الذين زعموا يومًا أن الكلمة خط دفاعنا الأخير، فقد انسحبوا إلى الزاويا. يكاد يُشعر المرء أن الاعتبارات السياسية أصبحت ورقة تُبعث على أنها “حياد”، لكن الحقيقة هي خيانة. خيانة لتاريخ الثقافة، لخزانة الأدب، وللأقلام التي انتظرناها أن تضيء.
لقد حاول النظام أن يُخرس وتسجّل كلمة صنصال، لكنه فشل. فكل جريمة قمعية ترى النور تُصبح علامة مضيئة، وكل صمتٍ يُصبح وصمة خسة في جبين من يدعون الدفاع.
إن اعتقال بوعلام صنصال ليس فقط قمعًا لكاتب، بل إعلان هزيمة للنظام نفسه: هزيمة أمام فكرة، هزيمة أمام الحقيقة، هزيمة أمام الكلمة الحرة.




