الرباط –Le24
أطلق الباحث والكاتب رشيد بوهدوز مبادرة رمزية تدعو إلى تسمية ملعب المدينة باسم «يوبا الثاني»، أحد أبرز الملوك الأمازيغ الذين حكموا شمال إفريقيا قبل الميلاد. المبادرة التي قُدِّمت في منشور فيسبوكي مرفوق بصورة توضيحية، تحوّلت سريعًا إلى موضوع نقاش واسع على شبكات التواصل الاجتماعي داخل المغرب وخارجه، بين مؤيدين يرون فيها إحياءً للذاكرة الحضارية، وآخرين يفضّلون أسماء رياضيين أو رموز وطنية حديثة. وبين هذا وذاك، برزت تعليقات متشنجة حاولت تحويل النقاش الثقافي إلى سجال هويّاتي ضيق، وهو ما رفضه صاحب المقترح مؤكدًا أن «الرموز التاريخية مشتركة في الفضاء المغاربي، وتسبق الحدود الحديثة بقرون».
فكرة المبادرة: استعادة الجذور لا افتعال الصدام
يرتكز مقترح بوهدوز على فكرة أن المغرب «لا يمكن أن يقدّم نفسه للعالم دون استحضار هويته العريقة وجذوره الحضارية في عمق التاريخ». ومن هذا المنطلق، دعا إلى أن تحمل المنشآت الرياضية والثقافية أسماء رموز أمازيغية قديمة إلى جانب أسماء الملوك والرموز الوطنية الحديثة، في محاولة لصياغة ذاكرة عمومية متعددة الطبقات: من ما قبل الميلاد وصولًا إلى الحاضر القريب.
وفي توضيحات لاحقة، شدّد بوهدوز على أن المقصود ليس ادّعاء «ملكية» رمز تاريخي لحساب قطر بعينه، بل التأكيد على أن المجال الموري الذي حكمه يوبا الثاني امتدّ بين المغرب وغرب الجزائر حاليًا؛ وعليه فإن رمزيته «مغاربية جامعة»، لافتًا إلى أن تكريم الشخصية التاريخية لا يعني تبنّي عقائد زمنها، تمامًا كما تحمل جامعات عالمية أسماء فلاسفة وشخصيات من عصور سابقة للأديان الإبراهيمية.
من هو يوبا الثاني؟
يُعد يوبا الثاني واحدًا من أشهر ملوك شمال إفريقيا في الحقبة الكلاسيكية. ارتبط اسمه بمرحلة شهدت تداخلًا ثقافيًا واسعًا بين الإرث الأمازيغي المحلي والتأثيرات المتوسطية، ما جعل سيرته حاضرة في كتابات المؤرخين بوصفه نموذجًا لحاكمٍ يجمع بين الرعاية الثقافية والانفتاح العلمي. وقد حكم يوبا الثاني منطقة تُعرف تاريخيًا بـ«موريطانيا» التي تشمل أجزاء من المغرب المعاصر وغرب الجزائر، وهو ما يجعل استحضاره اليوم جزءًا من ذاكرة مغاربية مشتركة أكثر منه موضوعًا لصراع حدودي.
كيف تفاعل الرأي العام؟
أظهرت متابعة التفاعلات على المنصات الاجتماعية أربعة اتجاهات رئيسية:
تيار داعم للمبادرة يرى في تسمية منشأة كبرى باسم يوبا الثاني خطوة رمزية لاستعادة العمق التاريخي الأمازيغي–المغاربي، ورسالة إيجابية إلى الداخل والخارج بأن الهوية المغربية تاريخ ممتد لا يبدأ بالقرن العشرين.
تيار يفضّل الأولويات الرياضية ويقترح أن تُمنح الملاعب أسماء أساطير الكرة وأبطال ألعاب القوى المغاربة الذين صنعوا أمجادًا رياضية حديثة؛ على أن يُكرّم الرموز القديمة في متاحف، مكتبات، شوارع وساحات.
تيار ثقافي–ديني يدعو لتسمية المنشآت بأسماء قيادات إسلامية أو شخصيات وطنية من التاريخ الوسيط والحديث، معتبرًا أن هذا المسار يرسّخ الهوية الدينية والمدنية في آن.
تعليقات متشنجة ومتفرقة حاولت حصر النقاش في «سباق نسب» بين دول، أو تحويله إلى ساحة للمهاترات اللفظية. وقد تجنّبت غالبية التفاعلات الرصينة الخوض في هذا المنحى، وتمسّك كثير من المشاركين بفكرة أن الرموز التاريخية لا تُختزل في خرائط اليوم، وأن النقاش الأهم هو كيف نُعرّف العالم بأنفسنا عبر تسميات ذات معنى.
بين الرمزية والسياسات العمومية للأسماء
تفتح المبادرة، من زاوية عملية، نقاشًا أوسع حول سياسات تسمية الفضاءات العامة: ما المعايير؟ ومن يقرر؟ وكيف نوازن بين الذاكرة القديمة والرموز الحديثة؟ خبراء في السياسات الثقافية يميلون إلى صيغٍ تراكمية: توزيع الأسماء على فئات متعددة (رموز قديمة، قامات فكرية وعلمية، شخصيات رياضية وفنية وطنية)، مع مراعاة الجغرافيا المحلية للمنشأة، وإشراك العموم عبر استطلاعات شفافة أو جلسات استماع شكلية.
في هذا السياق، يمكن لمبادرة من نوع «يوبا الثاني» أن تُستثمر تربويًا أيضًا: لوحات تعريفية تاريخية، مواد رقمية قصيرة توضح خرائط المجال الموري ونوميديا بشكل مبسّط وغير إقصائي، وإدراج بعدٍ تعليمي في محيط الملعب أو منصاته الرقمية لتعريف الزائرين بالتاريخ المتوسطي للمغرب.
ما وراء الاسم: سردية بلد
بعيدًا من تفاصيل الجدل، تكمن قوة المقترح في سؤالٍ أكبر: أيُّ سرديةٍ نُرسلها إلى العالم ونحن أمام استحقاقات رياضية كبرى؟ تسمية الملاعب ليست مجرد لافتة، بل لغة رمزية تختصر تصورنا لذاتنا: بلدٌ بذاكرة عميقة، وهوية مركّبة عربية–أمازيغية–متوسطية–إفريقية، وحاضر رياضي وصناعي وثقافي يتحرك إلى الأمام. من هذه الزاوية، لا يبدو أن هناك تعارضًا بين تكريم الأبطال المعاصرين، وبين استعادة أسماءٍ قديمة تحكي للزوار — والمواطنين — قصة مكانٍ أطول من السياسة اليومية.
مسار صحي لنقاشٍ عام
تؤكد تجربة الأيام الماضية أن النقاش حول الأسماء يمكن أن يكون فرصة لصناعة توافقات بدل الاصطفافات؛ شرط أن يُدار بهدوء، وأن تُحاصر الانزلاقات اللفظية بعيدًا عن المنصات الرسمية. ما طرحه بوهدوز، بقدر ما أثار انقسامًا طبيعيًا في الأذواق، فقد أعاد أيضًا إحياء سؤالٍ إيجابي: كيف نصنع ذاكرة مشتركة تعترف بتعدّد مصادر الهوية، دون إقصاء، ودون تضخيم للصوت العنصري على حساب النقاش الرصين.
سواء استقرّ الاختيار في النهاية على «يوبا الثاني»، أو على اسم رياضي مغربي كبير، أو على رمز وطني آخر، فإن القيمة الحقيقية للمبادرة تكمن في أنها أعادت الاعتبار لفكرة الذاكرة العمومية: ذاكرةٌ لا تختزل المغرب في فصل واحد، بل تقرأه عبر فصول متتابعة من تاريخٍ طويل. وفي بلدٍ يستعد لاحتضان تظاهرات رياضية عالمية، يبدو هذا النوع من النقاشات صحيًا ومطلوبًا — شرط أن يبقى في إطار الاحترام المتبادل، وأن تُترجم خلاصاته إلى سياسات تسمية شفافة تُشرك الناس وتوحّدهم حول أسماءٍ تحمل معنى.




