وأنا أتابع الضجة حول قضية الممثلة المغربية
غيثة عصفور، وكيف تحولت حياتها الشخصية إلى محاكمة شعبية ورأي عام، خطر في بالي حادثتان تاريخيتان تكشفان الفارق بين ثقافتين: ثقافتنا المغاربية الأصيلة، والثقافة المشرقية التي بدأت تغزو مجتمعنا تحت غطاء الدين.
المشهد الأول: ابن بطوطة في المجتمع المغاربي
في القرن الرابع عشر، وصل الرحالة المغربي ابن بطوطة، إلى مدينة إيوالاتن الامازيغية ببلاد مالي، فصُدم بعادات اجتماعية لم يعهدها. كان المجتمع هناك أكثر انفتاحًا، والرجال والنساء يتعاملون ببساطة وحرية غير مألوفة له. ذروة الدهشة كانت حين وجد القاضي يتحدث بأريحية مع امرأة شابة ليست من محارمه. استنكر ابن بطوطة المشهد، فجاءه رد القاضي هادئًا وواضحًا:
“مصاحبة النساء للرجال عندنا على خير وحسن طريقة لا تهمة فيها، وليس الأمر كما عندكم.” ( وهنا يقصد بعض الحواضر التي كانت متشددة ).
هذه الشهادة تثبت أن ثقافتنا المغاربية الاصيلة كانت تقوم على الثقة وحسن الظن، وأن الأصل في الإنسان البراءة، وليس الشك. وان المرأة محور المجتمع وليست الة جنسية، وما زالت هذه الخصال حية عند أهلنا في الصحراء، عند الصحراويين والطوارق الذين لم تنل منهم الوهابية والسلفية.
المشهد الثاني: زوجة النبي في مجتمع الريبة
الآن، لننتقل إلى حادثة الإفك. تاهت السيدة عائشة، زوجة أشرف الخلق، فوجدها صحابي جليل فأوصلها إلى المدينة. في ثقافتنا المغربية الأصيلة، كان هذا الموقف سيُعد ذروة الشهامة و”حفظ الحرمة”، وينتهي بالشكر والامتنان.
لكن ما حدث في المدينة المنورة كان مختلفًا تمامًا. انطلقت حملة قذف وتشهير استمرت أشهراً، واتهمت زوجة النبي بالزنا من طرف العامة، حتى أن النبي نفسه عانى من وطأة هذه الشائعات في مجتمعه، إذ ذكر في الحديث:
“من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي؟”
هذا الحديث يعكس شعوره بما لحقه من أذى نفسي واجتماعي نتيجة الشائعات والافتراءات التي طالت زوجته وأهله. “من يعذرني” تعني: هل هناك من يبرر لي أو يخفف عنّي هذا الأذى؟ و”من رجل بلغني أذاه في أهلي” يشير إلى الضرر الناجم عن كلام الناس وشائعاتهم، أي أذى نفسي واجتماعي رغم طهارة أهل بيته.
قراءتنا الثقافية لهذه الحادثة تكشف كيف أن المجتمع حين يغلبه الريبة والشك يمكن أن يطعن في عرض الأنقياء، ويحول لقاء رجل وامرأة، حتى في ظرف استثنائي، إلى مناسبة للاتهام الجنسي والتشهير.
حتى تطلب الأمر وحيًا إلهيًا لتبرئة السيدة عائشة وإنهاء الأزمة.
المشهد الثالث: ممثلة في مجتمعنا اليوم
عندما نضع قضية الممثلة المغربية في هذا السياق، نرى الكارثة بوضوح. مجتمعنا الذي كان أقرب لثقافة القاضي الامازيغي الصحراوي، أصبح اليوم يحاكم بمنطق المجتمع الذي احتضن الإفك. لقد استوردنا من المشرق، تحت غطاء الدين، ثقافة الريبة والشك، تلك الثقافة التي حوّلت المرأة إلى مجرد فتنة متحركة، وجعلتنا نرى في كل علاقة إنسانية مشروع جريمة.
إن القانون الذي حوكمت به الممثلة ليس سوى التجسيد الرسمي لهذه الثقافة الدخيلة. ما حدث لها لم يكن ليحدث في مغرب الثمانينات وما قبلها بنفس الشكل، قبل أن تغزونا أفكار جعلت الأخ يشك في أخته والأب في ابنته. لقد تخلينا عن “حسن الطريقة” الذي كان جزءاً من هويتنا، وتبنينا ثقافة الشك التي لم تسلم منها حتى السيدة عائشة.
ما نعيشه اليوم هو أزمة هوية. إنها دعوة لننظر في مرآة تاريخنا ونسأل أنفسنا: هل نريد أن نكون أحفاد القاضي الذي رأى في الصداقة “حسن طريقة”، أم ورثة المجتمع الذي احتاج إلى وحي من السماء ليثق في زوجة نبيه؟
دين واحد، ثقافات مختلفة، والفارق في القيم والممارسة هو ما يصنع الفرق بين مجتمع يحمي نساءه ومجتمع يشك فيهن.